الخميس، 12 أغسطس 2010

حوار الطين والنار في جداريات سلام جميل

يمكن القول عن تجربة الخزاف العراقي سلام جميل المغترب منذ سنوات بمدينة مشيغان الامريكية بأنها تجربة تكميلية لمسيرة عدد من الخزافين العراقيين المجددين ابتداء من الرائد الراحل سعد شاكر ومرورا بالاستاذ شنيار عبد لله وغيرهما من أولئك الذين حاولوا الربط بين الفنان كذات و منتجه الفني بوشائج ثقافية جمالية تكاملية وما لها من تأثير المثاقفة التبادلية ما بين الإنسان المبدع ومحيطه البيئي والجمالي والحضاري من ناحية وبين تشكيل ذاكرة بصرية ومرجعية ثقافية لهذا النمط الإبداعي.


حوار الطين والنار جداريات سلام

نموذج من ابداعات سلام جميل

فكانت تجاربه الفنية في عالم الخزف خلال أكثر من ثلاثين عاما محاولة جادة للكشف عن القوانين البنائية والصيغ الجمالية واستثمارها في صياغة اعماله الخزفية للوصول بها إلى علاقات عضوية تجسد قيما تشكيلية خاصه به كفنان وبحرفيتة كخزاف عارف بأسرار وتقنيات بناء ومعالجات السطحية الطينية ومجسدا لخيال الفنان المبدع في خلق علاقة جدلية بين التصور والشكل عبرالبحث الدائم عن جوهر تلك البنائية لاستخلاص نظم وتراكيب وعلاقات شكلية جديدة ومبتكرة، فكما يؤكد "جيلفورد" "التفكير الإبداعي تفكير افتراقي يتميز ببحث وإنطلاق في إتجاهات متعددة، وهذا يتوافق مع مفهوم التجديد وممارسة التجريب، والتربية الفنية تدعو إلى التجديد بمفهوم الفكر الإبداعي وذلك من خلال إيجاد صياغات وحلول سواء لموضوع أو لعنصر تشكيلي معين، من خلال ممارسة الأسلوب التجريبي كآداء لبعض التنظيمات الحركية بين الأشكال, والمساحات, كالتبادل، والتجميع، والتناوب، والتتابع، والتنظيم المنعكس، والحذف، والإضافة".

والفنان سلام جميل هو ابن الطين وهو الوريث الشرعي لذلك الخزاف الرافديني البدائي الذي رسم للعالم قبل ملايين السنين شكل الحرف الاول وصورالكتابة برموزه على ألواح الطين ليضيف للحضارة اولى لبنات المعرفة والجمال، لذا لن يبتعد كثيرا في فنه بين التجلي الإبداعي والتمكن من التقنية والعمق الفكري لتحقيق رؤية خزفية جديدة تتميز بالجدة والتفرد والحيوية . للخروج من الحيز النفعي والتزييني للخزف والعودة به إلى فضاء التعبير الجمالي، أسوة بالفنون البصرية الاخرى التي تتخذ هذا الاتجاه، والتي تهدف إلى الارتقاء بمستوى الجمال الذي يرنوا إليه . فأمست أعماله تتضمن قيماً جمالية وتعبيرية تضاهي فنون التشكيل الاخرى إن لم تكن تتفوق عليها أحيانا اننا نعرف أن فن الخزف هو فن الرسم بالنار والطين,‏ وهو نحت وتصوير وصناعة‏. فما كان منه الا استبعاد دور "الدولاب" المتورث والأشكال المستديرة الممتلئة بالنفعية المنزلية والتزيينية لصالح نزعة تجريدية تعبيرية مفتوحة على الارث الفني والجمالي الواسع للفن ليذهب به صوب الجدار فيعود الى روافد النحت العراقي القديم من "الرقم" الطينية وجدران المعابد والمدن ليوائم بها صيغا ارتبطت بتجربته في الخروج عن المألوف نحو الابتكار والتجديد، سواء على صعيد شكل العمل الخزفي، أو على صعيد وظيفته الاستخدامية . فكانت جداريته التي طوع بها بين التلقائية والقصدية الفنية اذ منح المحيط طابعا معماريا، ادمج فيه الاشياء المحيطة بالبيئة وخلق نبرة فنية متميزة لا يبتعد فيها طابع التشكيل المعاصر عن ابداعه كرسام وخزاف في ذات الوقت.

اذ تتسم أعماله بذلك الانسجام التجسيمي والقدرة على استيعاب تعبيرات المكان وربطها بشمولية تلك الرموز المتولدة استحداثا او المستعارة وبتطابق ايقاعي بين شكل الكتلة الجدارية وقدرتها الاستيعابية على التعبير بايمات روح الطين البدائية والمعاصرة، فهو اذ يذيب كل تلك الرموز البنائية انما يحاول من خلالها الكشف عن المخزون التعبيري وعن ذاكرة الاشياء المرموزة جماليا فالمكان في اعمال الفنان واسع ومنبسط على جدار الواقع عبر عدد من التوليفات والمفردات الرمزية مراعياً ما تحتويها تلك التشكيلات من قوانين التوافق والايقاع والتنوع بين مفرداتها، لا تخلو من نظام ووحدة رابطة بين كل عناصرها .فقد قام باضافة التشكيل الحروفي واشكال الابواب والقباب ومفردات أخرى كقيم مضافة تأخذ مداها التقني والفني المشغول برهافة وإحساس اقرب إلى الهندسة المدروسة منها إلى التلقائية مستجمعا الخزين المعرفي والتجربة الشخصية ممزوجة بخيال الفنان ورؤيته الجمالية ليحدد في النهاية ملامح العمل الفني، بأسلوب رمزي إيحائي يستوعب كل تلك التراكيب المكونة للجداريات قطعة جوار أخرى حيث تختلط الأبعاد لترتقي الى بعد ثالث.

فصفوف المجسمات تتداخل في خلق سطوح مجسدة لرؤية ما ورائية يتقصد الفنان في الحفر في ثناياها مستعينا بلون الطين ذاته بدرجات متباينة غير مبتعد عنه في أغلب أعماله، بينما تتداخل الالوان الاخرى في الايحاء ذاته كاللون الفيروزي الشرقي الملامح أن الفنان متعلق بمرجعية تلك الرموز المستمدة من جذورالثقافة الرافدينية والإسلامية، يطورها بشكل تجريبي جمالي معاصر. ليبدع أشكالا خزفية تثري المشهد التشكيلي عبر مساهماته في العديد من المعارض التشكيلية الشخصية والمشتركة في العراق والأردن والكويت وقطر والبحرين والولايات المتحدة الأمريكية وله مقتنيات في العديد من دول العالم وصالات اشهر الفنادق والمتاحف العالمية.

لندن- محسن الذهبي
العرب أونلاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق